Site icon PublicPresse

بيروت الثانية: سعد يشتت الأصوات ويجمعها

صور سعد الحريري في طريق الجديدة

ندى أيوب – الأخبار

بشعاراتٍ مختلفة، رفعت على أبواب المتاجر وأعمدة الإنارة والمباني، بعث أهالي بيروت برسائل لأبناء التيار وفلوله وللخصوم على حدٍ سواء. ذكّروا رفاقهم ممن يغريهم الاستحقاق بأن “العمل السياسي معلّق عنّا”. تعقيباً على العبارة يقول أحد شبان قصقص: “90% إلتزموا تعليق النشاط، ما عدا قلّة تعمل لمصلحة ماكينات انتخابية لأسبابٍ مختلفة بين الاستفادة المادية والقراءة المختلفة للمشهد. وهذا مرفوض”.

“فينا ننتخب وما بدنا”، الشعار المستوحى من الإعلانات الإنتخابية لحزب القوات، يستخدمه مناصرو الحريري للرد على خطابات القوات والرئيس فؤاد السنيورة الهادفة إلى رفع نسبة الإقتراع السني عبر التخويف من سيطرة حزب الله على بيروت واختيار نوابه بقوّة سلاحه. لعب السنيورة على وتر هواجس الناخب السني، متوهماً أن بالتحريض وحده يرث زعامة سعد الحريري. فأتت الردود مخيّبة لأماله المنتعشة بدعمٍ سعودي محدود. لا حباً بالحزب، وإنما تسليماً بـ”قدرته على السيطرة”، تقول شابة من آل عيتاني تقطن في رأس بيروت. يؤكد كلامها رجل ستّيني يجلس مع جيران الحي على أحد أرصفة الطريق الجديدة “نواب الحزب جايين جايين. يلّي بدو يسيطر يسيطر. ما عاد فارقة”. في الإتجاه عينه تصبّ آراء مجموعة شبان كانوا ينفّذون تحركاً إحتجاجياً على إنقطاع التيار الكهربائي في قصقص. أغلبية تعارضها أصوات قلّة تتقاطع مع السنيورة في “ضرورة الانتخاب لاختيار نواب بيروت بالصوت السني”، من دون أن تجزم الإقتراع للائحته. في الأصل، فشل السنيورة حيث نجح رفيق الحريري. ففي أذهانهم بقي ذاك “الصيداوي الغريب”، يقول بائع ألبسة في المزرعة. وما خروجه عن سعد الحريري إلا محفّز لنبش تاريخه “السيئ في إدارة مالية الدولة وفرض الضرائب” على حد تعبير سيدة خمسينية في البربير، تذكّره بقضية الـ 11 مليار دولار الشهيرة. في واقع الأمر، لائحة “بيروت تواجه” المدعومة من السنيورة في وجه لائحة “بيروت وحدتنا” المؤلفة من الثنائي والحزب القومي والحزب الديموقراطي، تواجه قلّة الحظوظ لا أكثر.

في جولةٍ بيروتية قبيل إعلان الحريري إنسحابه من الحياة السياسية، تحدّث كثر عن زعامته القائمة على الحب الكبير لرفيق الحريري، وكيف أن العاطفة وحدها، وإن لا تزال حاضرة، لن تحصّن الموقع المهتز لوريث “أبو بهاء”. جزء من هؤلاء سيجيّرون أصواتهم الضالّة في غياب سعد إلى نبيل بدر، حباً بنادي “الأنصار” الذي يشكّل جزءاً من هويتهم الجماعية. أحد لم يذكر برنامج لائحة “هيدي بيروت”، وهم على الأرجح لا يعرفون شيئاً عنه. الاقتراع العاطفي مرة جديدة هو الأسهل على من أضاع السبل واحتار في أمره، وخصوصاً أن التصويت لبدر لا يُعَدّ في نظر هذه الفئة تحدّياً للحريري، علماً بأن هؤلاء لم يحسموا الخيار نهائياً ولا يزالون يتأرجحون بين المقاطعة وخرقها كرمى لـ”الأنصار”، بشرط “ألا ينهمك بدر بالسياسة ويهمل النادي”، بحسب بائع حلوى في الملّا. آخرون سينتخبونها إنتقاماً من الحريري الذي “تركنا وفلّ يعمل زعيم على التويتر” يقول صاحب متجر في قريطم. وليس خافياً أن حضور العميد المتقاعد محمود الجمل على اللائحة يجذب البعض. هو “إبن عائلةٍ بيروتية محترمة وخدومة” بالنسبة إلى شريحة وازنة، فضلاً عن كونه شقيق العميد نور الدين الجمل الذي إستشهد في معركة عرسال في وجه تنظيم “داعش” عام 2014.

تحضر الرشاوى الإنتخابية بقوة في بيروت الثانية. الجميع يتحدث عن توزيع قسائم شرائية من إحدى التعاونيات بقيمة 500 ألف ليرة، وتركيب ألواح طاقة شمسية، وبدل توزيع بونات البنزين. رصدت الماكينة الانتخابية لأحد المرشحين مليوناً ونصف مليون ليرة لكل صاحب سيارة يبدي استعداده للتوجّه إلى صندوق الاقتراع. ظاهرة ليست جديدة، لكن فاقمها التناتش على أصوات أهالي بيروت واستغلال أوضاع الناخبين المزرية بفعل الانهيار. تتباين المواقف من الدفع المباشر، هناك من يقول “من يشترينا اليوم سيتركنا غداً”، فيما يجد آخرون في الاستحقاق “فرصة… يمكن أن نستفيد ونمتنع عن التصويت لاحقاً”. يحلّ فؤاد مخزومي على رأس قائمة مقدّمي “الخدمات”. أهالي المدينة يحصرونه في الخانة تلك، من دون أن يكون ذلك مقدّمة لولاءٍ لم ينجح في شرائه. إذ إن ترشّحه على لائحة خصمهم السياسي (حزب الله) في انتخابات 2018 لا يزال يستفزّهم رغم التحوّل في خطاب مخزومي اليوم. اللوم عينه ينصب على “الأحباش”، الحلفاء الانتخابيين السابقين لحزب الله، وتجيير الأصوات للائحتهم “لبيروت” سينحصر بالمنتمين فكرياً لهم. ولدى السؤال عن بهاء الحريري، تأتي الإجابة بسؤال: “وينو؟”. يأخذون عليه غيابه عن الأرض. بالدرجة الأولى هم غير متحمسين للشقيق “المخالف لنهج سعد وغير الداعم”. كما هو واضح لن تستفيد لائحته “لتبقى بيروت” من أصوات أنصار سعد.

تدغدغ شعارات التغيير مخيّلة سيدة ستنتخب قوى الإعتراض “طمعاً بإحداث تبديلٍ في الطبقة الحاكمة”، بعدما أعطت ثقتها لسعد الحريري في الإنتخابات السابقة. أحد آخر لا يأتي على ذكر اللوائح المعارضة المتعددة. لها أصواتها بالطبع، لكنّها لم تشكّل حالة في الشارع البيروتي رغم تشتّته ونقمته ولومه لسعد. إستحضار تاريخ 17 تشرين تقابله عبارة “الثورة فقط على سعد”. ولهذا السبب تحديداً، لن تأكل المعارضة من صحن الحريري. بل أبعد من ذلك يرى البعض أنها “ليست بديلاً جدياً ولا قوياً”، يقول بائع عصير ركن عربته الجوالة على زاوية طريق في كورنيش المزرعة. هو أب لولدين، عمل حتى عام 2017 في إحدى مؤسسات الحريري المفلسة حالياً. وانتهى به الأمر ليقول: “لو كنت أعلم أن قارباً سينطلق من طرابلس في رحلة هجرة لكنت أوّل الركاب”. لم تبدّل فاجعة قارب الموت من رغبته، هو الهارب من جحيم الأزمة والفاقد لأي أملٍ بالتغيير.

في العموم، لا حماسة شعبية. تفرض الأزمة الإقتصادية نفسها على الإستحقاق الانتخابي. يطغى الهم المعيشي اليومي على أحاديث الناس بمختلف شرائحهم، المشاركون منهم والمقاطعون. الجميع غارق في البحث عن سبلٍ لتأمين أساسيات الحياة المفقودة، حتى بات التفكير بالمعركة الانتخابية ترفاً لهؤلاء. فليحكم من يحكم. وليرحل من يريد. عبارات على هذه الشاكلة ترددت كثيراً. لا التغيير مأمول ولا السياسة بمعناها الخالص تعنيهم، بقدر الانهماك بأسئلة أكثر وجودية حول كيفية الاستمرار والمصير. تجدهم منهكين في معاركهم اليومية، تاركين للسلطة معركتها الانتخابية، وما غياب سعد الحريري إلا محفّز إضافيّ لهذا التوجّه لدى معظم الناخبين السنّة.

Exit mobile version