رسَم الأمين العام لـ”حزب الله” السيّد حسن نصرالله في خطابه الأخير معادلة جديدة قوامها انّ نشر الفوضى المتعمّدة في لبنان يساوي إنتقال الفوضى إلى المنطقة بدءاً من الكيان الإسرائيلي.. فما هي مقومات هذه المعادلة ودوافعها؟
لعلها المرة الأولى التي يُدخِلُ فيها “حزب الله” الأمن الإقتصادي – الإجتماعي في صميم إستراتيجية توازن الردع مع الإسرائيليين والأميركيين، بعدما كانت هذه الإستراتيجية مبنية بالدرجة الأولى على مُرتكزات عسكرية وميدانية.
يعرف الحزب أنّ الأميركي هو الأقوى على جبهة الدولار، حيث يملك زمام المبادرة والقدرة على الإيلام، مُستفيداً من قدراته الإقتصادية الكبيرة ومن تفوّق عملته الخضراء التي تتحكم بالأسواق العالمية وتؤثر في إقتصاديات الدول ومن بينها حتى تلك المحسوبة على محور المقاومة والممانعة. وبناء عليه، يدرك الحزب ان لا مجال لتكافؤ الفرَص عندما تلعب على أرض خصمك ووفق قواعد وَضَعها هو. وبالتالي، فإنّ الفجوة الموجودة بفِعل قوة الدولار غير قابلة للردم حتى إشعار آخر، وأقصى ما يمكنه فعله في هذا المجال لا يتعدى الإطار الدفاعي الذي من شأنه ان يؤدي إلى مزيد من الاستنزاف مع مرور الوقت.
حتى الأمس القريب، كان الحزب يواجه ما يعتبرها “الحرب الناعمة” الأميركية “بالشد” تارة و”الرخي” طوراً، خصوصاً ان تكتيكات هذه الحرب المموّهة تختلف عن أنماط المواجهة المباشرة، ولذلك هي تحتاج إلى أدوات مغايرة في التعامل معها.
لكن الحزب إستشعَر في الآونة الأخيرة انّ تلك الحرب الناعمة تتحول شيئاً فشيئاً نحو الخشونة المتزايدة التي تخالف قواعد الإشتباك الضمنية، وانّ وطأة ضغوطها المتراكمة آخذة في التفاقم والتفاعل على نحوٍ يصعب الإستمرار في تحمّله.
هذا ما أوحى به الإرتفاع الهائل في سعر الدولار إلى ما فوق الثمانين ألف ليرة خلال أيام قليلة من دون مبررات مقنعة، معطوفاً على مواصلة عرقلة إستجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن، والتمييع في إنطلاق عملية استثمار الحقول النفطية والغازية بينما باشَر الكيان الإسرائيلي التصدير من حقل كاريش، إلى جانب غير ذلك من الضغوط التي تحمل بصمات أميركية وفق تقديرات مركز القرار في “حزب الله”.
بمعنى آخر، توصّل الحزب إلى اقتناعٍ بأنّ كلفة التعايش مع الحرب الناعمة أصبحت تقترب من ان تكون أعلى من ثمن المواجهة المباشرة، فقرر أن يلجأ إلى خيار خارج “الصندوق” لمحاولة تصحيح التوازن المفقود، مُهدداً الأميركيين بإمساكهم من اليد الإسرائيلية التي توجِعهم، وصولاً إلى التلويح بتعميم الفوضى في لبنان على المنطقة، وكأنه يوحي بأنّ السحر سينقلب على الساحر وانّ من يريد دفع الساحة اللبنانية إلى الإنهيار الكبير لن يستطيع التحكّم بحدوده ووتيرته.
ولئن كان البعض قد يظن أنّ رسائل الأمين العام للحزب التحذيرية والمدوية هي أقرب إلى حرب نفسية منها الى تهديد جدي وانّ الهدف منها التهديد بقلب الطاولة وليس قلبها فعلياً، الا انّ العارفين يؤكدون انه كان يعني ما قاله في خطابه حرفياً، وان خطة الرد على القتل البطيء باتت واضحة المعالم في انتظار صدور الأمر بمباشرة التنفيذ في التوقيت المناسب.
وما يعزّز هذا الإقتناع لدى المواكبين لتجارب الحزب هو أن السيد نصرالله حريص على حماية صدقيته التي تُعتبر من أهم أسلحته النوعية وعناصر قوته، وبالتالي فالتهديد بالحرب لا نفع له أساساً ما لم يكن مقروناً أوّلاً بالقدرة على خوضها إذا دعت الحاجة، وثانياً بثقة العدو في وجود تلك القدرة.
من هنا، ينصح المطلعون على حقائق الأمور بعدم إختبار جدية الحزب أو صبره لأنّ النتيجة معروفة سلفاً.
ومع ذلك، من المُبكر الإستنتاج بأنّ الرد، الذي تبقى طبيعته غامضة، سيتم بالضرورة في القريب العاجل. ذلك أنّ الحزب الذي يجيد المُقارعة على حافة الهاوية يريد لرسائله التحذيرية ان تأخذ مداها وصداها الكافيين، خصوصاً في واشنطن وتل أبيب، حتى يبنى على الشيء مقتضاه لاحقاً، فإن أعطت مفعولها تكون الغاية منها قد تحققت، وإن جرى تجاهلها يبدأ تسييلها الى فعلٍ ميداني، وربما عبر جرعات ومراحل متدرّجة وتصاعدية، كما حصل خلال مرحلة التفاوض حول ترسيم الحدود البحرية حين إعتمد الحزب سياسة التدرّج في مستوى الإنذارات.
المهم بالنسبة إلى الحزب أنه إتخذ قراره: سقف البلد لن يقع علينا وحدنا، بل إنّ مصالح الأميركيين في لبنان وإسرائيل، وربما أبعد، ستصبح أيضاً تحت الركام.